>> استقبال الجزائر ممثلين عن حركات الطوارق زاد من التوتر بين البلدين
>> صانع الرؤساء في مالي “محمود ديكو” في بؤرة الأزمة
>> مالي: الجزائر شهدت اجتماعات متكررة مع أشخاص معروفين بعدائهم للحكومة المالية واختاروا المعسكر الإرهابي
شهدت العلاقات بين الجزائر وجارتها الجنوبية مالي، قبل أيام من نهاية العام 2023، هزة غير مسبوقة، عقب استقبال الجزائر ممثلين عن حركات الطوارق المناوئين للسلطات في باماكو، وذلك في إطار ما اعتبرته الجزائر وساطة.
وظلت العلاقات بين الجزائر ومالي توصف بـ”الجيدة” وتتسم بـ”حسن الجوار”، من قبل مسؤولي البلدين منذ عقود، حتى أن هناك من السياسيين في باماكو من يصفها بالشقيقة الكبرى، كما كانت ترجمة ذلك في الواقع من خلال زيارات متبادلة على أعلى مستوى ومساعدات جزائرية متنوعة للجارة الجنوبية، فضلا عن لعبها دور الوساطة عدة مرات بين سلطات باماكو وطوارق الشمال.
وبحسب تقرير لصحيفة “العرب” اللندنية، اندلعت شرارة الأزمة الدبلوماسية بين البلدين في 22 ديسمبر الماضي، عندما استدعت مالي سفير الجزائر لديها للتشاور، احتجاجًا على ما اعتبرته تدخلا في الشأن الداخلي المالي، وما كان من الجزائر إلا أن ردّت بالمثل في غضون ساعات، في تطور لم يسبق أن بلغته العلاقات بين الدولتين منذ استقلالهما.
أزمة غير مسبوقة
يتمثل التدخل في الشأن الداخلي الذي اعترضت عليه مالي في استقبال الجزائر قادة وممثلين عن حركات الطوارق التي تمردت سابقا على نظام باماكو، وذلك في إطار لجنة المتابعة لتنفيذ بنود اتفاق السلام الموقع بين الطرفين عام 2015، ويسمى “اتفاق الجزائر”.
واستقبل الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون الإمام محمود ديكو، وهو رجل دين يوصف بصانع الرؤساء في مالي، ومعروف بانتقاده الدائم للمرحلة الانتقالية بقيادة الجيش.
ووصفت خارجية مالي اللقاءات بأنها “اجتماعات متكررة تعقد في الجزائر دون أدنى علم لدى السلطات المالية، مع أشخاص معروفين بعدائهم للحكومة المالية من جهة، ومن جهة أخرى مع بعض الحركات الموقعة على اتفاق 2015، التي اختارت المعسكر الإرهابي”.
وكان التحرك الجزائري قد جاء إثر نشوب مواجهات قبل عدة أسابيع، بين هذه الجماعات المسلحة والجيش النظامي في شمال البلاد، وخرق اتفاق وقف إطلاق النار لأول مرة منذ توقيعه، ما دفع قوات حركات الأزواد إلى مغادرة عاصمة الشمال كيدال.
وقالت الخارجية الجزائرية في بيان لدى استدعائها سفير مالي إن الوزير أحمد عطاف “أكد أن المساهمات التاريخية للجزائر في تعزيز السلم والأمن في مالي، كانت مبنية على تمسك الجزائر بسيادة مالي”.
محاولة إنقاذ اتفاق السلام
كان هذا المنعرج في العلاقات بين البلدين مفاجئا، حيث شهد محور الجزائر – باماكو مطلع عام 2023 حراكا كثيفا لتحصين اتفاق السلام من الانهيار.
وفي الفترة بين ديسمبر 2022 ويناير 2023 تبادل مسؤولون من البلدين زيارات ورسائل عديدة، كان محورها “جهود إحلال السلم والمصالحة في مالي”.
والخطوة التي حركت هذه الزيارات هي رسالة تلقاها وزير الخارجية الجزائري السابق رمطان لعمامرة، مطلع ديسمبر 2022، من تنسيقية حركات الأزواد التي تضم التنظيمات المتمردة شمال مالي.
ومضمون الرسالة هو الدعوة إلى اجتماع طارئ مع كل الوسطاء الدوليين في مكان محايد، لبحث قضية اتفاق السلام.
ودعت الجزائر إلى اجتماع للوسطاء الدوليين بتاريخ 16 ديسمبر الماضي، توّج ببيان يؤكد ضرورة “الشروع في تقييم واضح للوضع الحالي، لتنفيذ اتفاق السلام”.
كما دعا البيان الوسطاء الدوليين، الأطراف الموقعة على الاتفاق، إلى “بذل الجهود اللازمة لتهيئة جو من الثقة والاحترام المتبادل، وإبداء التزامهم القوي بشكل عاجل لتحقيق الأهداف المذكورة في الاتفاق”.
وفي 10 يناير 2022 زار لعمامرة باماكو وأجرى لقاءات ثنائية متعددة الأطراف، والتقى مع رئيس مالي خلال الفترة الانتقالية العقيد أسيمي جويتا، وأبلغه مضمون رسالة شفوية من الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، بحسب بيان للخارجية الجزائرية.
وهذه الرسالة وفق البيان “تندرج في إطار السعي المتواصل لتعزيز علاقات الأخوة والتعاون بين البلدين الشقيقين، وتسريع وتيرة تنفيذ اتفاق السلم والمصالحة المنبثق عن مسار الجزائر، لما له من أهمية قصوى في الحفاظ على وحدة وسيادة واستقرار جمهورية مالي والمنطقة برمّتها”.
كما عقد لعمامرة، خلال الزيارة، اجتماعا في مقر سفارة بلاده لمجموعة الوساطة الدولية حول مالي، وهي تضم ممثلين عن دول الجوار والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي؛ الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وروسيا والصين.
موقف باماكو
يقول الخبير الأمني والإستراتيجي حسان قاسمي إن “الأزمة بين الجزائر ومالي هي في الحقيقة نتيجة جانبية لبعض ما يجري في دول الساحل، نظرا للتطورات الأمنية المسجلة في هذا الفضاء الذي يتميز بعدم الاستقرار”.
وقاسمي الذي شغل سابقا منصب مدير الهجرة بوزارة الداخلية قال “لاحظنا مؤخرا نوعا من التشنج في العلاقات بين البلدين، لذلك وجب التذكير بوجود اتفاق السلام 2015، الذي وقعت عليه عدة أطراف”.
وأكد أن “الانقلاب العسكري الأخير في مالي كانت له تداعيات كثيرة، منها طلب السلطات العسكرية الانتقالية خروج القوات الأجنبية”.
وأشار إلى أن “خروج فرنسا من مالي كان نتيجة التحولات العنيفة التي شهدتها الدولة، ما أحدث فراغا، يضاف إلى ذلك الطلب من البعثة الأممية لحفظ السلام (مينوسما) مغادرة البلاد”.
ونتج عن هذا الوضع، وفق قاسمي، “صراع مباشر بين قوات الأزواد والقوات المالية المدعومة من ميليشيات فاجنر (الروسية)، ما أدى إلى تطور الصراع بشكل خطير”، في إشارة إلى أن جيش مالي النظامي زحف على مدينة كيدال بمساعدة فاجنر.
وأضاف أن “السلطات الانتقالية في باماكو انخرطت في محاولات فرض حلول سياسية بالقوة شمال البلاد، بدعم من ميليشيات فاجنر، ما أدى إلى انسحاب قوات الحركات الأزوادية من مدينة كيدال”.
ولفت إلى أن هذا الوضع “دفع بعض الفصائل المتمردة من الحركات الأزوادية إلى التحالف مع بعض الجماعات المسلحة”.
ومنذ سنوات تدفع الجزائر بعشرات الآلاف من عناصر الجيش نحو حدودها الجنوبية وخصوصا مالي والنيجر، والشرقية مع ليبيا بسبب الوضع الأمني غير المستقر في هذه الدول، وتصاعد ما تقول السلطات إنه نشاط جماعات إرهابية مسلحة، على غرار ما يسمى بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وحركات أخرى تنشط في تهريب السلاح والمخدرات عبر الحدود.
وقال قاسمي إن “الأمر الغريب هو أن الأزواد كانت موجودة في الاجتماع، بما فيها سلطات دينية معروفة، ولكن السلطات الانتقالية في باماكو غابت عن اللقاء”.
وأضاف “سلطات باماكو كان موقفها غريبا من اجتماع الجزائر الذي حضرته حركات أزوادية، وكان من المفروض أن تحضره”.
ووفق قاسمي فإن “باماكو بدلا من حضور اللقاء انخرطت في مسار انتقاد الجزائر عقب لقائها بممثلي حركات أزوادية”.
إنهاء العمل باتفاق الجزائر
يقول المحلل السياسي توفيق بوقاعدة إن “خطاب رئيس المرحلة الانتقالية في مالي العقيد أسيمي جويتا يعتبر إعلانا عن انتهاء اتفاق الجزائر، بعد أن كان الإنهاء العملي للاتفاق في شهر نوفمبر الماضي، عقب زحف الجيش المالي بدعم من مجموعة فاجنر إلى مدينة كيدال، معقل الإطار الموحد لحركات الأزواد المعارضة”.
وأوضح بوقاعدة أن “قرار الرئيس الانتقالي دليل رفضه أي وساطة دولية، سواء السابقة أو اللاحقة”.
وأكد أن “هذا القرار ليس مفاجئا، فقد مهدت له مالي بتصريحات سابقة، تفيد بأن الواقع الجديد في مالي تجاوز ظروف توقيع اتفاق الجزائر، وأن السلطة عازمة على إخضاع كل مناطق البلاد تحت سلطتها المركزية”.
وأشار إلى أن “هذا التحول يستند إلى ما أفرزته العملية الانقلابية الأخيرة وطردها للوجود الفرنسي، وإلغاء كل الاتفاقيات الموقعة معه، وهو ما أكسبها شرعية شعبية تتكئ عليها في قراراتها اللاحقة”.
وأضاف أن “مالي ترى في نفسها قوة قادرة على فرض الأمر الواقع، بعيدا عن أي ضغوط دولية أو إقليمية، وقد عملت السلطة الانتقالية على إنهاء أي اتصال دبلوماسي مع الراعي الأول لهذا الاتفاق، من خلال سحب سفيرها من الجزائر”.
وخلص المحلل بوقاعدة إلى أن “باماكو تكون بعد كل هذا قد تنصلت من كل التزاماتها التعاقدية مع حركات الشمال والأمم المتحدة وبعثتها التي انسحبت بطلب منها”.