بقلم : الوزير السابق جوزف الهاشم
بين الموت ، والقهر والتشرّد والفقر ، والدموع والـذلّ والجوع ، يصبح الموتُ أرحم …
أخطرُ أنواع حروب الجـوع يشهدها العالم اليوم ، تكاد تضاهي ما كان في الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية .
ما يزيد على تسعين دولة ، تعاني شعوبها مأساة الجوع ، وأشدّها مضاضةً وبؤساً ، تلك التي تعمّ بعض العالم العربي : نازحون بالملايين تطاردهم نيران السلاطين ، يسكنون الخيام في العَـراء ، كالبدْوِ الرُحَّل ، فلا عشبَ ولا مـاء .
عندما يكون الخبزُ هو الحـدُّ الفاصل بين الموت والحياة ، يصبح الخبزُ هو المطلق الحياتي ، والمعبود المطلق ، والدين المطلق ، والرحمان الرحيم ، أليسَ أنّ الماركسية جعلت من إآـهِ الخبز ديناً للجياع ، ونوعاً من الإلحاد العقلي …؟
هل نستعرض ما شاعَ في بعض العالم ، وبعض العالم العربي بالأخصّ ، من مجازر دموية أصابتِ الشعوب في جوهر وجودها الكوني والتكويني ، وكأنّ نزعـة الحرب الغرائزية متأصلةٌ في النفوس ، حتى ولو أدَّت لعبة الشطرنج إلى مـوت الجميع منْ أجل أنْ يحيا الملك …؟
هناك سؤالٌ يُطرح ولا يُسمعُ تحت دوّي المدافع : لو أنّ الأموال الطائلة بملايين الملايين التي أُنفقَتْ على سلاح التدمير والهدم والتهجير ، قد استُعملت في سبيل العمران ورفاهية الإنسان ، أفما كان بعض العالم العربي الغارق في بحور الدم والصراعات الداخلية ، شبيهاً بما ارتقى إليه العالم العربي الآخر في دول الخليج …؟
معظمُ مجتمعات العالم العربي ، باتتْ تتشكَّلُ من طبقتين لا ثالثة لهما : طبقةُ الأكواخ وطبقةُ القصور ، ففي القصورِ مواسم وفي الأكواخِ مآتـم .
أما نحنُ في لبنان ، فقد أنقذنا الشغورُ من ويْـلِ القصور ، وما علينا إلاّ أنْ نعود إلى مجاعاتنا ، وما حكَّ جلدكَ مثلُ ظفركَ .
يـوم استفحلت مجاعة الحرب العالمية الثانية ، وسنة 1940 ، إختفى القمح من أسواق لبنان ، ولجأت الأفران إلى ما تيسَّر من خبـز الشعير ، فتعالت الصرخات تردّد : “بدْنا ناكل جوعانين” حتى أن أحد الزجّالين كتب :
طَعْميتونا خبز شعير شنهقنا أول شنهوقا
بكرا بتقوم الحمير وبتطالبنا بحقوقـا
ووسط تلك النكبة المعيشية والتظاهرات الصاخبة ، لم يكن أمام رئيس الوزراء عبدالله بينهم آنذاك إلاّ أنْ يحمل استقالته إلى الرئيس إميل إدّه قائلاً : “لم أعُـدْ أستطيع النظر إلى وجـوه أهلي في بيروت” .
ولما كان الرئيس إميل إده يعاني أيضاً مرارة النظر إلى وجـوه أهله كانت استقالة الإثنين معاً ، في مطلع نيسان 1941 .(1)
في المقارنة بين زماننا وزمانهم ، لا نرى واحداً من المسؤولين ينظر إلى وجـوه أهله الجياع إلاّ بعين الوقاحة العوراء .
جعلوا شعب لبنان العظيم متسّولاً …
سلبوا أموال اللبنانيين ، وبعد أموالهم شرفهم ، وبعد شرفهم ، جعلوهم يعانون الجـوع والفقر والـذل والظلم والظلمة وسائر أنواع المنايا ، وليس هناك لا “إدّه ولا “عبدالله”، ولا مَـنْ يخشى غضب الله الذي لم يخلق الإنسان لكي يُذلَّـه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – من كتاب بشارة الخوري – وليد عوض – الجزء الأول – ص : 235 – 236 .
*كاتب المقال: وزير لبناني سابق.