استراتيجية النفوذ الروسي (2-2)

آخر تحديث : الجمعة 26 يوليو 2024 - 10:48 مساءً
بقلم: حاتم عبد القادر
بقلم: حاتم عبد القادر

تناولنا في المقال الماضي الحديث عن النفوذ الروسي واستراتيجياته الحديثة في ظل سعيه لإنهاء ما يعرف بالقطبية الواحدة لقيادة العالم التي انفردت بها الولايات المتحدة الأمريكية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في العام 1991.

وقد تعرضنا للزيارتين التاريخيتين للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الشهر الماضي إلى كل من كوريا الشمالية وفيتنام، والاتفاقيات (ذات المؤشر) التي أزعجت أمريكا وحلفاءها، في إطار سعي روسيا لضبط ميزان القوى العالمي وأن تعود طرفا فاعلا على الساحة الدولية تلعب من خلاله دور حيوي في إطار الشراكة لا التبعية.

وفي هذا المقال، نستعرض استراتيجية النفوذ الروسي في إطار سياسته الخارجية التي ازدادت قوة وتحركا فريدا، وبشكل خاص في منطقتي “الشرق الأوسط” وأفريقيا. فقد حرصت روسيا أن تبسط نفوذها في منطقة الشرق الأوسط بعد أن أدركت سحب البساط من تحت أرجل أمريكا، خاصة فيما بعد أحداث ما عرف ب “الربيع العربي” في كل من تونس، ومصر، وسوريا، وليبيا، واليمن.

فقد تمكنت روسيا من التدخل في الأزمة السورية ومعها إيران ودعمت نظام الرئيس بشار الأسد، فهو النظام العربي الوحيد الذي نجا من طوفان ومخطط الربيع العربي، وعلى إثر هذا الدعم المقدم لنظام “الأسد” وقعت روسيا وسوريا في 18 يناير لعام 2017 اتفاقية تسمح بتوسيع استخدامات القاعدة البحرية الروسية في مدينة طرطوس السورية، المطلة على البحر المتوسط، لمدة 49 عاما مجانا وأن تتمتع روسيا بالسيادة القضائية على القاعدة البحرية.

كما تمكنت روسيا من موطأ قدم لها في ليبيا في العام 2019 من خلال تواجد شبه عسكري بواسطة مجموعة فاجنر، و-خلال هذا العام- زاد التحرك الروسي من تزويد مركبات ومعدات عسكرية في مدينة طبرق (شرق ليبيا)، ومعروف الدعم الكبير الذي توليه روسيا إلى الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر.

وعلى صعيد أكثر استراتيجية نجحت روسيا في توطيد العلاقات الاستراتيجية مع مصر بعد إنهاء حكم تنظيم الإخوان بفضل ثورة 30 يونيو 2013، حيث كان للرئيس عبد الفتاح السيسي تحركات فاعلة قبل ترشحه لمنصب رئيس الجمهورية مع الجانب الروسي تحديدا، فقد أدرك أن الاتجاه شرقا سيكون له الدور الأبرز في سياسة مصر الخارجية مقابل ضرب كل الحسابات الأمريكية وحلفائها الغربيين الداعمين لحكم “الإخوان”، الأمر الذي أجبر المجتمع الدولي على قبول الأمر الواقع والرضوخ إلى رغبة الشارع المصري الذي عصف بالحكم الإخواني.

وفي هذا الصدد، يجب أن ندرك أن روسيا في عهد الرئيس بوتين أمام عقيدة تاريخية مقدسة، وهي استعادة إرثها التاريخي العظيم، والتخلص من عقدة انهيار الاتحاد الروسي في عام 1991، واستعادة المكانة والحقوق المسلوبة على أيدي الغرب، ومد النفوذ على كافة المستويات.

وحين نتطرق إلى العلاقات الروسية الأفريقية تحديدا، نجد أنها علاقات ممتدة إلى جذور التاريخ، وهو ما يحاول “بوتين” جاهدا لاستعادة تلك العلاقات وترسيخها بما يضمن نفوذا يحقق المجد الروسي على مختلف الأصعدة (سياسيا وعسكريا واقتصاديا وثقافيا).

لقد ظل نظام بوتين يشعر بالندم نظرا لعدم حصول روسيا على حصتها المفترضة من أفريقيا أثناء الحقبة الاستعمارية؛ فقد تكبدت روسيا خسائر فادحة نتيجة الاستثمار السوفيتي في تلك المدة مع الدول الأفريقية، حيث لعبت روسيا دورا داعما لحركات التحرر الوطني للدول الأفريقية في حقبة الستينيات من القرن الماضي، فقد خرجت روسيا دون تحقيق أي مكسب أو الحصول على جزء من الكعكة الأفريقية، في حين ظلت قوى الاستعمار القديم لأفريقيا هي المستثمرة والمستفيدة من خيرات أفريقيا.

ففي ظل هذا التسابق المحموم على دول القارة الأفريقية من القوى العالمية والإقليمية، ومع خروج أمريكا من أفريقيا وكذلك الدول الاستعمارية الغربية وأهمها فرنسا، وجدت روسيا الفرصة سانحة لتوطين أقدامها في تلك البقعة من العالم الزاخرة بالثروات والخيرات التي نهبها المستعمر القديم… ونجحت روسيا في مساندة القادة الأفارقة وتقديم المساعدات الأمنية والاقتصادية، وأيضا الإعلامية التي كان لها الفضل على تأثير الرأي العام في أفريقيا.

ومن أهم الدول التي توطنت فيها الأقدام الروسية كانت جمهورية أفريقيا الوسطى، ومالي، وبوركينا فاسو، بعد أن نجحت تلك الدول في طرد القوات الفرنسية التي استطاعت شعوب تلك الدول وقادتها في صب غضبها عليها في السنوات الأخيرة، وأن وجودها لم يعد يمثل أي أمل أو خير لتلك الدول، وأن الالتزام الفرنسي بتحقيق رفاهية تلك الشعوب لم يكن سوى مزيد من الاستعباد وسحب ثروات تلك الشعوب واستمرار عمليات استفقارها الممنهج.

وعلى الرغم من أن روسيا تتبع سياسة برجماتية لتحقيق مصالحها كما أمريكا والغرب، إلا أنها تختلف في الأساليب والإجراءات؛ حيث تحرص على اتباع سياسة المصالح المتبادلة لا سياسة الاستعباد والامتلاك كما تفعل أمريكا وقوى الاستعمار الغربي، ويذكر لروسيا هنا أنها كانت حافزا لتحرر الدول الأفريقية من المحتل الغربي.

وقد امتدت السياسة الروسية إلى القوة الناعمة التي تتخذ من الثقافة والفنون جسورا فاعلة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، فأنشأت عددا من وسائل الإعلام في تلك الدول للتأثير على الرأي العام الأفريقي، وكذلك أنشطة ثقافية وفنية متنوعة مثل “الأسابيع الفنية” و “الأسابيع الثقافية” التي تعرض لتاريخ العلاقة بين روسيا والدول الأفريقية، ما ساعد روسيا على ملء الفراغ الغربي في القارة الأفريقية.

ومن الأهمية بمكان، الإشارة إلى الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الروسية سيرجي لافروف في المدة من 2 – 6 يونيو الماضي إلى من تشاد، وغينيا، والكونغو برازافيل، وبوركينا فاسو، في خطوة وصفت بأنها تعزيز للدور والنفوذ الروسي في القارة الأفريقية بما يحافظ على مصالحه الاستراتيجية هناك.

وتجدر الإشارة إلى أن زيارة “بوتين” إلى كل من كوريا الشمالية وفيتنام جاءت بعد جولة “لافروف” الأفريقية بأسبوعين؛ مما يدل أن التحرك الروسي يخطط لتشعب وجوده في مختلف مناطق العالم من آسيا إلى أفريقيا مرور بمنطقة الشرق الأوسط، في عزيمة واضحة مع حلفائه لإنهاء القطبية الواحدة لإدارة العالم، موجها صفعة إلى أمريكا.

وترجع أهمية زيارة “لافروف” للدول الأفريقية الأربعة لاعتبار الظروف والتحديات الأمنية والسياسية التي تمر بها الدول، علاوة على أنها الزيارة السادسة لـ”لافروف” للقارة الأفريقية خلال عامين؛ مما يبرهن على استراتيجية الاهتمام الروسي بأفريقيا، وفي القلب من هذا الاهتمام، تحديدا، زيارته الأولى إلى دولة تشاد، آخر معاقل الوجود الفرنسي في أفريقيا، والتي تعد نقطة وجود استراتيجية لفرنسا؛ لمراقبة دول الساحل والصحراء في القارة الأفريقية، إلا أن هناك غضبا شعبيا يتجدد من وقت لآخر لوجود قوات فرنسية داخل البلاد، وهو ما تحاول روسيا استثماره، مبكرا، بتقديم الدعم اللازم لتشاد حيال ما تشهده من توترات في أوضاعها الأمنية والسياسية؛ حيث تصاعد أنشطة بعض التنظيمات المتطرفة في البلاد، فقد أصبحت تشاد في صدارة الترتيب الدولي بعد أفغانستان من حيث عدد العمليات الإرهابية وفقا لمؤشر الإرهاب العالمي لعام 2024، وتعاني كلا من غينيا والكونغو برزافيل من أزمات اقتصادية.

أيضا، فإن بوركينا فاسو تشهد حالة كبيرة من عدم الاستقرار السياسي بعد تمديد حكم المجلس العسكري لمدة خمس سنوات بقيادة إبراهيم تراوري، كذلك على المستوى الأمني فهناك تصاعد لأنشطة تنظيم القاعدة الإرهابي وتنفيذه لعدد كبير من العمليات الإرهابية ضد الجيش وقوات مكافحة الإرهاب… كل هذه الظروف تسبب عوامل دافعة للطرف الروسي أن يتواجد مقدم عددا من الحلول الناجزة لتلك الدول مقابل حصوله على مصالحه الاستراتيجية في مواجهة أمريكا والتي تركت فراغا سهل لروسيا عملية الدخول إلى أفريقيا.

يبقى أن نشير إلى أن الإعلام الأوروبي يكيل بمكيالين في عملية التنافس على الوصول إلى أفريقيا، فيصف التواجد الروسي هناك بالنفعية وأنه لمجرد تحقيق مصالحه فقط، وأنه يستخدم مرتزقة مجموعة “فاجنر” الأمنية في تحقيق تلك المصالح، في حين أن مجموعة “بلاك ووتر” تقوم بنفس الدور ولم يتم وصف عناصرها بـ”المرتزقة”، كما يعتبر الإعلام الأوروبي ما تقوم به روسيا من دعايات سياسية لنفسها في أفريقيا إنما يمثل تضليلا لإذكاء مشاعر الشعوب الأفريقية ضد الغرب.

في كل الأحوال، روسيا مستمرة في سياستها وفرض نفوذها مع حلفائها الجدد لإيقاف الهيمنة الأمريكية؛ ليشهد العالم مرحلة جديدة من سيطرة الأقطاب المتعددة.

رابط مختصر
2024-07-26
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء اسرة العربي الأفريقي الالكترونية وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.

حاتم عبدالقادر