يقول الفيلسوف الإلماني “هيغل” : “تندلع الحروب عندما تكون ضرورية ، ثـمّ تنمو المواسم من جديد وتتوقّف الألسنة عن الثرثرة أمام جدّيـةِ التاريخ”(1) . ولكنّ الحروب ، ولا سيّما في منطقة الشرق الأوسط ، تندلع ، ويندلع معها التاريخ ، وتندلع المواسم ، كأنما الله قد صـبَّ غضبَـهُ على هذه المنطقة بما يشبه الطوفان.
قبل نشوء المنظمات الدولية : الأمم المتحدة (1945) ، شرعة حقوق الإنسان (1948) ، مجلس الأمن الذي يُعتبر “المسؤول عن حفظ السلام والأمن الدوليَّين” ، كانت الدولُ كما القبائل ، تحلّ الصراعات فيما بينها بالغزو الدموي.
تصَّوروا أبـرز مشاهدها التاريخية في الشرق العربي : جيش المغول يدخل بغداد 1258 بقيادة “هولاكو” يدمّـر معالمها الحضارية ، يغرق في نهر دجلـة دماء الملايين من البشر “ودماء” الملايين من الكتُب ، حتى قال المؤرّخ “إبن الأثير” : “إنّ العالم منذ أنْ خُلِـقَ آدم وحـواء لم يشهد مثل هذه المجازر” . وها هو تيمورلنك في المقابل ، يغزو دمشق (1400) ، يفرش الأرضَ بالجثث، يحرق المدينة والمسجد الأموي ، يبني الأبراج والمآذن بالجماجم ، على ما يذكر “إبن أياس” ، والغريب أنَّ تيمورلنك كما يقول المؤرخون ، كان متديِّناً ، وكان يحمل مع جيشه مسجداً متحركاً ليؤدّي فيه الصلاة.
بعد نشوء المرجعيات والمنظمات الدولية المعنيّة بالسلام العالمي وحقوق الإنسان ، ماذا تغيّر في هذا العالم عمّـا كان من مجازر في عهد المغول . المشكلة في أنّ هذه المرجعيات وفي طليعتها الأمم المتحدة ومجلس الأمن أصبحت محكومةً من جبابرة الدول الكبرى.
والمشكلة الثانية : في هذا الإنخفاض الذريع في مستوى قيادات الدول الكبرى التي تحتكر قرار الحرب وقرار السلم . حين كانت مثلاً ، معاهدة “يالطا” للسلام في أعقاب الحرب العالمية الثانية 1945 موقَّعة من : الولايات المتحدة بزعامة “روزفلت” ، والإتحاد السوفياتي بزعامة ستالين ، وبريطانيا بزعامة تشرشل.
تصوّروا اليوم كيف انحدر مستوى الزعامات الدولية إلى مجاهل القرون الوسطى ، فانخرط معها العالم في الحشود العسكرية الخاضعة لنظام الإرهاب . وحين أصبحت القوانين والعلائق الدولية محكومةً بحكم الميادين ، فإذا الحرب تصنع الدولة والدولة تصنع الحرب ، أصبحت المحافظة على الوجود الكياني والإنساني مرتبطة بالتفوق العسكري المسلّح.
من هنا ، برزت تلك الجنيّـة الساحرة التي إسمها الطائرات المسيَّرة ، فراحت تشكِّل تنافساً محموماً بين الدول ، تُخصَّصُ لها كبرى الموازانات على حساب شؤون الحياة ومعيشة الإنسانية المعذَّبـة.
هذه المسيّرات : تخفّـف أعباء الحروب الباهظة ، تحول دون المواجهة الكلاسيكية المباشرة بين الجيوش ، تحقّـق أهداف الحرب بالإغتيالات ، تشكّل توازناً نسبيّاً في القدرة القتالية بين الدول الكبرى والصغرى ، كما هي الحال بين روسيا وأوكرانيا، فهي إذاً تستحقّ جائزة “نوبل للحرب” ولا تستبشروا بعد ذلك مع “هيغل” “بأنّ الحروب تتوقَّـف مع جدّية التاريخ”.
مع سقوط المواثيق الدولية ، لا يبقى إلاّ الرجوع إلى رحاب الله خلاصاً … إلى رحاب الله الذي فوق ، وليس الله الذي حمله تيمورلنك في مسجد متحرّك إلى الشام ، وليس الله الذي يؤْمنُ بـه اليهود قائداً عسكرياً لتحقيق انتصاراتهم على الشعوب ، وليس الله الذي تجنّده التنظيمات الإرهابية جندياً معها في القتال.
وحـدَه اكتشاف الله الذي انظفأ نـورُه في أعماق أُلوهيَّةِ السلاطين ، هو القادر على تحقيق السلام لبني البشر.
يقول أرسطو “إذا كان الله غير موجود فعلينا اكتشاف الله كي لا يفقد الناسُ عقولهم”، وليس الجنون هو الوسيلة الفضلى لاكتشاف الله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ـ “هيغل” مقطوعات مختارة ـ ص : 278 .
*كاتب المقال: وزير لبناني سابق.