بعد أن وصل سعد الحريري، رئيس الحكومة اللبنانية المستقيل، إلى العاصمة الفرنسية، باريس، بدعوة رسمية من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بدأ الفصل الثاني من الأزمة اللبنانية التي نشبت على إعلان “الحريري” استقالته من العاصمة السعودية، الرياض، إذ أن الأزمة لم تنتهي بعد، ولكن انفراجة تلوح ببادرة أمل لانتهاء الأزمة بعد إعلان جميع الأطراف، علنا، ووقف التراشق بين المملكة العربية السعودية ولبنان، بمختلف المستويات، وصولا إلى عودة العلاقات إلى طبيعتها بين البلدين.
والأهم في زيارة “الحريري” إلى باريس أنها نفت المزاعم اللبنانية (الرسمية وغير الرسمية) من أن السعودية تقوم باحتجاز “الحريري” وعائلته ولن تسمح له بالمغادرة، وهو ما عبر عنه صراحة الرئيس اللبناني ميشال عون، بعد أن اتجه لتدويل الأزمة التي رآها اللبنانيون أنها تمس سيادة دولتهم وكرامتهم (ولهم كل الحق في ذلك)، وقد شوهد “الحريري” وعقيلته “لارا العظم” وابنهما البكر “حسام” يستقبلهم “ماكرون” استقبالا رسميا في قصر الإليزيه، فحرص “ماكرون” على الاستقبال الرسمي للحريري باعتباره مازال رئيسا للحكومة اللبنانية، حيث عضدت فرنسا موقف لبنان، وكان لها الفضل الأكبر مع الدول الكبرى مثل أمريكا وبريطانيا التي تحركت من أجل حلحلة الأزمة، حتى لا ينفرط عقدها، وتخلق أزمة أكبر تهدد استقرار المنطقة بأسرها، خاصة وأن إسرائيل لم تكن غائبة عن المشهد في تلك الأزمة.. ولا يخفى هنا دور الدبلوماسية المصرية التي تحركت “بحكمة” على خط الأزمة، من خلال الجولة العربية التي قام بها وزير الخارجية سامح شكري لكل من المملكة الأردنية الهاشمية ومملكة البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة ودولة الكويت وسلطنة عمان وختاما المملكة العربية السعودية، وهي الجولة التي مثلت محور التحرك العربي للأزمة.
وبعدها بيومين يتم الإعلان عن توجه “الحريري” إلى باريس ومن بعدها إلى وطنه ليشهد احتفالات عيد الاستقلال، حيث أكد أنه سيكون في بيروت في يوم 22 نوفمبر الجاري. إن المتتبع للأزمة من بداياتها بالطبع سيدرك أن لها مقدمات ولم تكن مفاجئة، ولكن المفاجأة الحقيقية والكبرى تمثلت في إعلان “الحرير” استقالته من خارج لبنان، ومن الدولة التي كانت الطرف الرئيس في المناوشات طيلة شهرين سبقتا استقالة “الحريري”.
فقد استمر التراشق الإعلامي بين السعودية ولبنان عبر كتاب الأعمدة الصحفية على إثر التغريدات (الضمنية) المتبادلة بين ثامر السبهان وزير شؤون دول الخليج في السعودية وحسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني، وهي التغريدات التي تلقفتها أيدي الإعلاميين والصحفيين في كلا البلدين ونسجوا منها خيوطا لمواد صحفية مثيرة ومشوقة.
فقد استغرق الجميع في الهجوم، كل من منصته، ضد الآخر، علاوة على التقليب في ملفات وأزمات الماضي، متناسين أننا جميعا في خندق واحد، خاصة بعد الانتصارات التي تتوالى على تنظيم داعش الإرهابي في المنطقة، وبدلا من التفكير في وضع واتجاه المنطقة فيما بعد “داعش” راح الجميع ليدفع المنطقة بأسرها لتقع في أزمة جديدة طرفاها السعودية ولبنان، لتمتد إلى دول الطوق العربي، وكأننا في رفاهية للبحث عن أزمات جديدة!
لا أحد ينكر أن استقالة “الحريري” من خارج وطنه ومن دولة شقيقة بحجم السعودية (التي يحمل جنسيتها) مثلت جرحا غائرا لدى الدولة اللبنانية، على المستويين الرسمي والشعبي، حيث مست الاستقالة السيادة الوطنية للدولة اللبنانية وكرامتها، كما ينعكس ذلك على “الحريري” نفسه، الذي لم يُعرف حتى الآن ظروف وملابسات تقديم الاستقالة وعبر بيان تليفزيوني من خلال قناة العربية الإخبارية (التي يملكها سعوديون) في مفاجأة مدوية ودون سابق إنذار.
فقد خالف “الحريري” الطريق الذي رسمه الدستور اللبناني لتقديم استقالة الحكومة، وهو ما تعامل معه الرئيس ميشال عون بسرعة وبحكمة بالغة، حيث رفض قبول الاستقالة، معلنا أنه بانتظار عودة “الحريري” حتى يتعرف منه على دوافعه الحقيقية وعلى ضوءه يكون التصرف. موقف “عون” ولأول مرة في المشهد اللبناني يجتمع عليه فرقاء السياسة اللبنانية.
فقد توحدت جميع القوى اللبنانية على اختلاف عقائدها الدينية والمذهبية والسياسية على موقف واحد، وهو رفض استقالة “الحريري” معتبرينها أنها إهانة بالغة، وأنهم جميعا بانتظار رئيس حكومتهم الذي انطلقت عواطفهم نحوه، في مشهد ملحمي، من أجل الكرامة اللبنانية وسيادة دولتهم.
ولأول مرة أيضا يجمع المشهد كل الطوائف اللبنانية في كفة واحدة مع “حزب الله” الذي نفى بدوره أنه يستهدف حياة الرئيس سعد الحريري، بل رأينا خطابا ناعما من زعيم الحزب حسن نصر الله، من خلال خطابه في اليوم التالي لإعلان استقالة “الحريري”، وهو الخطاب الذي حمل دلالات وإشارات اتفقت عليها كل القوى اللبنانية الرسمية والشعبية معا.
ولعل توحيد الموقف بين فرقاء لبنان ووقوفهم على قلب رجل واحد خلال الأزمة التي قاربت أسبوعين كانت المفتاح الأكبر لحل الأزمة بعيدا عن التهور والدخول في مهاترات لا أحد يعلم مداها.
ولو اعتبرنا أن طرفي الأزمة تمثلا في السعودية ولبنان، ففي الأولى يدار المشهد السياسي، حاليا، من خلال سواعد شابة، لديها حلم التغيير والانطلاق نحو آفاق تقدمية واسعة، والإمساك بأوراق جديدة تقود المملكة لتتربع على عرش النفوذ؛ لتكون لها الهيمنة والنفوذ الأول في الإقليم.
لكن في الحالة اللبنانية فقد أدار المشهد بحكمة “عواجيز السياسة اللبنانية” على رأسهم الرئيس ميشال عون ومعه رئيس مجلس النواب نبيه بري ومفتي الديار اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان والبطريرك الماروني بشارة الراعي وغيرهم من ألوان الطيف السياسي المتعدد الذي يضم وليد جنبلاط (زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي) وسمير جعجع (رئيس حزب القوات اللبنانية) وسليمان فرنجية (زعيم تيار المردة) وفؤاد السنيورة (رئيس كتلة المستقبل النيابية) ورؤساء لبنان السابقين ميشال سليمان وأمين الجميل وإميل لحود.. نجح هؤلاء لأنهم تربوا في بيئة سياسية امتدت لعشرات السنين، ولأن حالة وطنية جمعتهم هي كرامة لبنان وسيادته.
ليس سرا، أن حالة التوتر التي شهدتها العلاقات بين السعودية ولبنان ترجع في سببها الرئيسي إلى حزب الله وتبعيته لإيران، وهذا قديم يتجدد طوال الوقت، وأن لبنان مازال واقعا تحت وصاية القرار الإيراني من خلال وجود حزب الله الذي يشارك في لبنان سياسيا وعسكريا، ولا يخفى على أحد أيضا، أن حزب الله هو أحد الكيانات المؤثرة، بل والصنعة في بعض الأحيان، على القرار اللبناني.
ولكن ما كان ينبغي أبدا أن، يرقى لفكر البعض، أن يجعل من لبنان ساحة لتصفية الحسابات بين السعودية وإيران؛ لما في ذلك من خطورة هائلة تنعكس، ليس فقط، على لبنان أو السعودية فحسب، بل على كل الدول المجاورة ودول الطوق العربي.
من هنا نقول “أن السياسة تحتاج إلى حكمة الشيوخ وليس تهور الشباب”.
ويبقى في المشهد اللبناني الانتظار إلى عودة “الحريري” إلى لبنان ولقاءه بالرئيس عون، ليتم بعدها إعلان الموقف النهائي، وما إذا سيعدل “الحريري” عن استقالته ويستمر رئيسا للحكومة حتى إنجاز الانتخابات التشريعية المقررة في صيف 2018، أو ستتم قبول الاستقالة. في كل الأحوال فعودة “الحريري” إلى لبنان أحد أمرين، إما أن تكون الفصل الثاني والأخير في الأزمة، أو تكون بداية لفصول أخرى تحملها الأيام القادمة.