تلقيت دعوة كريمة من البنك المركزي العراقي، لحضور المؤتمر الثالث للبنك الموقر يومي 9 و10 ديسمبر الجاري، وبالرغم من ارتباطي بحضور (منتدى أفريقيا 2017) والذي تزامن مع انعقاد مؤتمر البنك المركزي العراقي، فما كان مني إلا قبول الدعوة العراقية؛ لأكثر من سبب.. أولها تقديرا للدعوة الكريمة وهذا الاهتمام العراقي.
ثانيا: أنني كنت تواقا، منذ فترة، لزيارة عاصمة الرشيد، وبلاد النهرين، وبالفعل كنت بصدد التحضير لزيارة العراق لإنجاز ملف شامل عن واقع الحياة العراقية بعد الانتصار الكبير للجيش العراقي على أكبر تنظيم إرهابي عرفته الإنسانية، تنظيم داعش الإجرامي.
فقد كنت بدأت التنسيق مع السفير العراقي لدى مصر، حبيب الصدر، لهذه الزيارة، ومازال الأمر مستمرا حتى الآن لإنجاز هذا الملف الذي تنوي جريدة “العربي الأفريقي” إنجازه عن العراق ومقومات الحياة بكافة أبعادها.
وبالرغم من قصر المدة التي قضيتها في العاصمة العراقية، بغداد، إلا أنني استطعت تكوين لمحة سريعة مفادها أن “بغداد آمنة”.
بمجرد أن استعدت الطائرة للهبوط إلى مطار بغداد الدولي تستشعر بحنين غريب إلى هذا الوطن الذي له سمة خاصة ومكانة خاصة في قلب كل مصري وكل أسرة مصرية، كما تشعر بحنين هذا الوطن إليك أيضا وكأن بينك وبينه ميعاد.. أشواق متبادلة، وعشق نابض، فأنت على موعد مع بلاد الرافدين.
استقبال حافل من ممثلي البنك المركزي العراقي، ورابطة المصارف الخاصة العراقية، الكل يتسابق لخدمتك، فما تولد أي شعور بالغربة، وكيف ذلك وأنت بين أحضان الشقيقة الأولى لمصر؟!!
وبمجرد وصولي اصطحبني الأخ الفاضل شيروان أنور مصطفى، رئيس لجنة العلاقات الخارجية برابطة المصارف الخاصة العراقية، إلى قناة “العراقية”، القناة الرسمية للدولة، حيث كنت ضيفا ببرنامج “تغطية خاصة” وكانت الحلقة مخصصة عن المؤتمر الذي تنطلق أعماله في اليوم التالي للبرنامج.
وتحدثت من الزاوية الإعلامية عن الاقتصاد العراقي وما يحتاجه العراقيين من اهتمام أكبر بمشروعات التنمية وسط التحدي الهائل للحكومة العراقية التي عانت ويلات حروب متعاقبة أثرت على كل مناحي الحياة، كما استوجبت الأمانة التحدث عن دور الإعلام في أوقات التوتر وانعدام اليقين بما يؤثر على المشهد الاقتصادي محدثا تحولات وبلبلة لا يجني ثمارها الخاسرة إلا المواطنين، وهو ما دعاني لتوضيح الصورة لحكومة مثل الحكومة العراقية تعمل في ظروف الحرب والإرهاب المنظم، وبالرغم من ذلك استطاعت الصمود وبشتى الوسائل اختارت ألا تحمل مواطنيها أعباء إضافية تزيد من همومه الحياتية.
قبل الزيارة كنت قد نسقت لإجراء حوار صحفي مع وزير الخارجية إبراهيم الجعفري، ولكن تشاء الظروف أنه في نفس يوم قدومي للعراق كان هو في القاهرة لحضور الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب حول قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الخاص بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وهنا دعوني أسجل موقف تقدير للحكومة العراقية حيث استدعائها السفير الأمريكي ببغداد لإبلاغ بلاده اعتراض العراق على هذا القرار.
وربما شاءت الأقدار أن تكون الزيارة مغلقة على متابعة أعمال المؤتمر الثالث للبنك المركزي العراقي، وسط نخبة متميزة من قيادات المصارف العراقية والعربية ومحافظ سلطة النقد الفلسطسنية عزام الشوا.. لكنني تجولت في بغداد، ليلا، في جولة سريعة اصحبني فيها صديق عراقي هو الدبلوماسي نزار الحكيم.
ومن حسن الطالع أن تتزامن زيارتي لبغداد مع إعلان رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي إعلان انتصار الجيش العراقي وتطهير كافة الحدود العراقية السورية من تنظيم داعش الإرهابي، وسيطرة الجيش العراقي عليها تماما، وقد أقيم احتفال رسمي بهذه المناسبة يوم الأحد الموافق 10 ديسمبر الجاري.
كنت خططت كصحفي يحرص على أن يعود محملا بملفات صحفية من حوارات وتقارير عن المشهد السياسي للبلد الذي يزوره، إلا أن القدر رتب تريبا مخالفا، وقد كان أجمل مما تمنيت.
نعم، كان أجمل مما خططت له، فعلى مدى ثلاثة أيام لم أرى من كل عراقي إلا التقدير والحفاوة البالغة التي وصلت لحد الخجل من هذا الكرم والاهتمام بكل من هو مصري.
التقيت أشقاء أعزاء لم أرهم منذ فترة، وتعرفت على أشقاء جدد، وكأننا نجدد التعارف.
وكانت المفاجأة واللفتة الأبرز هو تكريمي من قبل محافظ البنك المركزي العراقي الدكتور علي محسن إسماعيل العلاق، حيث أهداني درع البنك في ختام أعمال المؤتمر، وهو تكريم لا أستحقه، وإنما جاء فضلا من أهل الفضل، ولا يفوتني في هذا المقام أن أقدم شكرا خاصا للمهندس صالح مهود، مدير عام الدائرة الإدارية في البنك المركزي العراقي، والذي بذل جهدا فائقا كان يستمر للساعات الأولى من الصباح، باعتباره رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر، أيضا الصديق العزيز رجل الأعمال الشهير ورئيس رابطة المصارف الخاصة العراقية الأستاذ وديع الحنضل، والذي كان له بصمة متميزة في المؤتمر.
رأيت في عيون كل من التقيتهم في المؤتمر تقديرهم لمصر وكل من يحمل إسمها، وكان من المهم أيضا أن أرى العراقيين في شوارع بغداد، كيف يعيشون.. كنت متشوقا لأطالع الخوف الذي نسمع عنه في محطات التليفزيون المختلفة في عيون العراقيين والزائرين على حد سواء.
فبالرغم من كل التحذيرات التي أهداني إياها المقربون من السفر إلى العراق تحسبا لعملية إرهابية أو التعرض لحادث اختطاف.. إلى آخره، إلا أنني آثرت السفر إلى بغداد، وكنت واثقا من أنني سأكون في بغداد كما أنني في القاهرة، وسأعود سالما بفضل الله.
وفعلا، توجهت إلى عاصمة الرشيد، ومنذ اللحظة الأولى لوصولي بعد غروب شمس يوم الجمعة الموافق 9 ديسمبر الجاري، أدركت حنين العراق إلى أهله وإلى أشقاءه العرب، وكأني أسمع صوتا من الشمال وآخر من الجنوب، وصياح من الشرق ومناداة من الغرب: “لا تتركوا العراق، فإن لكم فيه نصيبا وله حق عليكم”.. نقاط التأمين والتفتيش لا تنتهي، حماية للعراق وزائريه، وانتشار للجيش والشرطة، الكل يمارس مهامه لحماية الوطن، معرضين حياتهم للخطر، فداء للأهل والوطن، كما الحال في مصر، فمن يدفع الثمن هم بواسل الجيش والشرطة، فقد اختاروا أن يدفعوا الثمن نيابة عن أهلهم وإخوانهم في الوطن.
وبالرغم من وقوع بعض الهجمات الإرهابية في أطراف بغداد، إلا أن هذا ليس العنوان الدائم للعراق، فكما عانت مصر وإلى الآن من مثل هذه الحوادث الإرهابية وسط أجواء مستقرة يحاول “الخونة” من بني جلدتنا “للأسف” اصطناعها، تعاني بغداد من وقت لآخر من تلك العمليات الجبانة.
ولكن اليوم أصبح الوضع آمنا بنسبة عالية قياسا عن الفترات التي تمكن فيها سرطان “داعش” من إنهاك الجسد العراقي، وما رأيناه من عمليات قتل وخطف وذبح في الموصل والفلوجة والرمادي وصلاح الدين وغيرها من المحافظات العراقية كان كفيلا بتوليد اليأس والإحباط في نفوس العراق من شعبه وساسته.
وحتى أرى وأطالع ما بخاطري عن “بغداد” تجولت، ليلا، عشية مغادرتي، ورأيت العراقيين من رجال ونساء وشباب وفتيات وشيوخ وأطفال كما أنهم مصريين، ربما تقاربت الملامح واختلفت “اللهجة”، والأجمل أنني شاهدت مسيرات بالسيارات ورفع الأعلام العراقية، احتفالا بانتصارات جيشهم الوطني على “داعش”، فكم رأيت الفرحة في عيونهم، وكأنها تأخرت في موعدها عليهم.
رأيت أسرة من رجل وزوجته وأطفالهم يستقلون سيارتهم فرحا بالانتصارات، وطفل ذا ملامح منهكة، إلا أن عيونه حملت براءته وفرحة بددت يأس حاله برفعه علم الوطن، وعائلات ساروا في الشوارع بلا خوف، يشترون الحلوى، ويتناولون العشاء، وآخرون ينتظرون السمك المسكوف “أشهر الأكلات عراقية” في مطاعم بغداد بشوارع الكرادة والمنصور وأبو نواس.
ووصولا إلى ميدان الفردوس، الذي شهد تحطم تمثال الرئيس الراحل صدام حسين، والمسجد الشهير المقابل له، وكذلك الفندقين الأشهر في بغداد، حيث مقر إقامة الإعلاميين الدولين في عام 2003، أثناء الغزو الأمريكي للعراق.
وفي طريق العودة إلى فندق بابل “حيث إقامتي” وزحام الطريق، تتواصل الاحتفالات الشعبية بإطلاق الألعاب النارية والأغاني العراقية، ابتهاجا بإعلان النصر على “داعش”، وإذ بي في طريق العودة يقف، فجأة، صديقي الدبلوماسي نزار الحكيم، أمام أشهر محل لبيع الحلويات في بغداد، وليغمرني، كرما وحفاوة، بأشهر الحلويات العراقية “المن والسلوى” وباقة أخرى من حلوى بغداد الشهيرة.
وكما أنني رأيت بعض الأماكن التي خربها الإرهابيون في بغداد، ورغم أنني انتظرت سماع دوي هنا أو انفجار هناك، إلا أنني رأيت اليقين بالله والأمل في عيون كل العراقيين، الكل يمارس حياته متوكلا على الله، فـ”الخوف من الله” غلب “الخوف من الإرهاب”، فكان استمرار الحياة.
تعمدت ألا أتطرق في مقالي إلى المشهد السياسي العراقي، وأن أرصد لكم ملامح الحياة في واحدة من أهم العواصم العربية؛ لتتعرفوا عن قرب على حياة العراقيين، فمن سمع ليس كمن رأى.
وأحرص في هذا المقام لأوضح شيئا في غاية الأهمية، وهو، أنني منذ أن وطأت أقدامي العراق لم أشعر بأجواء الطائفية التي يغذيها الإعلام وينفخ في كيرها من وقت لآخر، طبقا لمخططات أعدت سلفا، ومعروف أصحابها وأهدافهم، فقد كنت بين العراقيين لا أعرف من هو مسيحيا أو مسلما “سنيا كان أو شيعيا” أو صابئة أو كرديا أو تركمانيا أو إيزيديا.
الكل يتعايش تحت سقف وطن واحد، قد يختلفون في اتجاهاتهم السياسية والمذهبية، ولكن في النهاية يجمعهم وطن واحد وعادات واحدة تحت اسم “العراقيين”.
وخلال زيارتي وكلما تعرفت على عراقي، لم أسأله أنت مسلم سني أم شيعي أم مسيحي، فلا يهمني ذلك مطلقا، ما كان يهمني عراقيته وعروبته، وهما متحققان في كل من عرفتهم وقابلتهم.
ربما نختلف في اتجاهاتنا، ولكن الأهم أن تجمعنا هويتنا، وقد جمعتنا عروبتنا.
أخيرا، وقبل أن أغادر بغداد، فقد سمعت أنينه من سنوات الحرب والدمار التي خلفت وراءها لأكثر من 35 عاما مظاهر دولة منهكة.. فقد آن الآوان لتعود بغداد مزينة بحضارة “بابل” و”آشور”، وبجمال عصرها لتغدوا عنوانا من أجمل العناوين العربية، وهو ما يفرض تحديات ماثلة أمام الحكومة، بعد التخلص من “داعش” وأخواتها.
فإعادة الإعمار للمناطق التي تم تدميرها خلال الحرب على “داعش” تحد كبير أمام ما تبقى من عمر للحكومة الحالية، والحكومة القادمة، حيث الانتخابات النيابية المقررة في أبريل 2018، وتشكيل حكومة جديدة تشكلها كتلة الأغلبية النيابية بحسب الدستور العراقي. وفي النهاية، ينعقد الأمل دائما أن تظل بغداد آمنة.