عاد دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية من جديد، وبيده أحلام ومخططات لن يهدأ إلا بتنفيذها أو إشعال المنطقة العربية بالتوتر وعدم الاستقرار.
وكنت أتصور أنه سيتفرغ للشأن الداخلي لبلاده في الربع الأول من العام ومن بعدها يتجه إلى السياسة الخارجية، إلا أنه بدأ مبكرا ومتسرعا لتنفيذ صفقة القرن في شكل جديد.
راح “ترامب” ليمنح ما لا يملك إلى من لا يملك أيضا، وبكل بساطة ووضوح أراد تصفية القضية الفلسطينية بترحيل الفلسطينيين من أهالي غزة إلى كل من مصر والأردن، وينتهي الأمر وينتهي كل شيء.. وكأن الخلاف على قطعة أرض معروضة للبيع أو الشراء، فالرجل يفكر بعقلية مهنته كمقاول أو مستثمر في مجال التطوير العقاري والمنتجعات السياحية. فقد عرض “ترامب” مشروعه بأنه سيجعل من غزة ريفيرا فرنسية جديدة على شاطئ البحر المتوسط، ومن أجل هذا يجب تفريغ غزة من أهلها، طالبا من الرئيس عبد الفتاح السيسي توطين جزء من أهالي غزة في مصر بمنحهم جزء من سيناء، كما طلب نفس الأمر من العاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين بتوطين الجزء الآخر من أهالي غزة في الأردن.
لم يكن يتوقع “ترامب” الرد الفوري بالرفض القطعي من مصر والأردن بأن مخططه غير قابل للتنفيذ، مهما كان الثمن، وأن ما يطرحه ليس إلا تصفية للقضية الفلسطينية وسيطرة دولة الاحتلال الإسرائيلي على كامل التراب الفلسطيني وانتهاء الأمر عند هذا الحد.
تصور “ترامب” أن الأرض في عقيدة العرب مجرد سلعة للبيع والشراء والتجديد والتطوير، ولم يعي أنها أساس ممتد لأصولهم وانتمائهم وحضارتهم وارتباط متجذر في وجدانهم وضميرهم يدافعون عنها كما يدافعون عن عرضهم ومالهم لآخر نفس في حياتهم.
لا يدرك “ترامب” مدى ارتباط العرب بأوطانهم وأراضيها، ولا يعرف كيف تفرض أديانهم ووطنيتهم الدفاع عن أرضهم مهما كلفهم الأمر من مال أو حياة، إنها غريزة موروثة في نفس كل عربي.
ولأن مصر على يقين بأن الهدف هو تصفية القضية الفلسطينية وإزالة هذا الصداع المزمن من رأس دولة الاحتلال، حيث تمثل حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هذا الصداع لإسرائيل، خاصة بعد أن كبدتها خسائر اقتصادية باهظة بعد انطلاق عملية السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، وجعلتها أضحوكة على المستوى السياسي والعسكري أمام العالم أجمع.
إن مصر تدرك جيدا مدى التهديد لأمنها القومي في حال تنفيذ مخطط أمريكا وإسرائيل بتهجير فلسطينيو غزة إلى أراضيها، فهذا من شأنه توتر الأوضاع في المنطقة وبالأخص في الحدود بين مصر ودولة الاحتلال الإسرائيلي، فلن تنتهي عمليات المقاومة ضد دولة الاحتلال، علاوة على خلق مناخ محفز لنشوء تنظيمات مسلحة وإرهابية في مصر، وهو السيناريو الموجود في لبنان في مخيم عين الحلوة المخصص للفلسطينيين وخارج سيطرة الدولة اللبنانية، ناهيك عن حزب الله ودوره في لبنان وتأثيره وسيطرته على كافة مفاصل الدولة اللبنانية بدعم وارتهان للدولة الإيرانية، وإن كانت الأوضاع آخذة في التغيير حاليا.
إن مصر واعية ومنتبهة جيدا لمخططات لا تهدف إلا لتدمير المنطقة وخلق توترات جديدة لها وإعادة تشكيلها من جديد وفق العقيدة الغربية المستمرة لزعزعة أمن واستقرار العالم العربي ومحيطه الذي يعد مركز العالم للثروات والأهمية الاستراتيجية.
والرئيس السيسي يدرك جيدا نقطة استهداف الأمن القومي المصري والأمن القومي العربي، والمخططات الأجنبية والقوى المساعدة لتنفيذ تلك المخططات.
وطبقا لرؤية “السيسي”، فإن الأمن القومي لكل دولة عربية على حدا لن يتحقق إلا في إطار الأمن القومي العربي، وهو ما يعني أن مفهوم الأمن الوطني لكل دولة قد انتقل من المستوى الوطني إلى المستوى الإقليمي في ظل إعادة ترتيب أولويات الأمن (الأمن الإنساني – الأمن الوطني – الأمن القومي أو الإقليمي) وهي ثلاثة مستويات، الدولة مسؤولة عنها بصفة مباشرة، ثم الأمن العالمي الذي يعد مسؤولية منظمة الأمم المتحدة. من هنا، فإن “السيسي” يعي تماما الآثار المترتبة على تلك المخططات الخبيثة التي تنال وتهدد الأمن القومي المصري الذي هو صمام ونقطة ارتكاز الأمن القومي العربي، فكان واضحا منذ اللحظة الأولى، رافضا مجرد الحديث عن مبدأ التهجير، ونجح في وأد الفكرة في مهدها انطلاقا من عقيدة مصر شعبا وجيشا بأنه لا تفريط في ذرة من تراب الوطن.
من يتصور أن “ترامب” ومخططه دربا من الجنون، فهو غير مدرك لطبيعة وعقلية الفكر الغربي وعقيدته تجاه الشرق والعرب بشكل خاص.
إن مخطط “ترامب” مخطط واعٍ ومدروس وفق خطط موضوعة منذ سنوات، وتعمل عليها أجهزة ومراكز دراسات متخصصة وفق استراتيجيات متطورة في الفكر التدميري للدول وشعوبها.
ومنطقة الشرق الأوسط تحديدا هي المنطقة موضوع الدراسات والتغيير المنشود في فكر واهتمام تلك المراكز، لما لهذه المنطقة من استراتيجية بالغة التأثير في مصالح الدول الكبرى.
إن مشروع “ترامب” ليس إلا حلقة في مسلسل تغيير الشرق الأوسط، وإعادة رسم وتشكيل خرائطه من جديد.
فالمتابع لحركات التغيير الداخلية في العالم العربي والتي لم تكن أكثر من مجرد وكلاء تابعين لأجهزة المخابرات الأمريكية، وهم من نفذوا ما عرف بثورات الربيع العربي في عام ٢٠١١ يجد أن نفس السيناريو يتكرر اليوم. وقد أعلنتها من قبل كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس باراك أوباما بأن “الفوضى الخلاقة” هي سبيل التغيير في الشرق الأوسط لإزاحة الأنظمة الحاكمة في تلك المنطقة (التي انتهى عمرها الافتراضي لخدمة المصالح الصهيو أمريكية)، وهو مشروع تم وضعه والعمل عليه لسنوات إلى أن حان وقت التتفيذ، ولعلنا جميعا نتذكر انفصال جنوب السودان عن السودان في التاسع من يناير ٢٠١١ نفس عام انطلاق ثورات الربيع العربي، وهو مخطط تم العمل عليه لعدة عقود.
إن خرائط التغيير للمنطقة العربية والشرق الأوسط مستمرة وآخذة في التطوير، وهناك جنرالات وسياسيين وأكاديميين في العلوم السياسية والاستراتيجية معنيين وشغلهم الشاغل رسم تلك الخرائط، طبقا لمعطيات ومؤشرات الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبما يحقق مصالح الدول العظمى التي تسيطر على إدارة العالم.
إن مشروعات التغيير بدأت منذ توقيع اتفاقية سايكس/ بيكو (1916)، ووعد بلفور (1917) ويتكرران في ذات المنطقة، ولكن بأدوات وآليات جديدة لزيادة التقسيم والتفتيت.
إن مخططات التقسيم للمنطقة العربية بدأت منذ زمن بعيد طمعا في منطقة لم تسلم من حكام العالم لما تتمتع به من ثروات ومضايق وممرات بحرية تعد شريان الحياة الاقتصادية للعالم أجمع.
فقد بدأت مخططات تقسيم المنطقة العربية بمؤتمر كامبل بنرمان (1905 – 1907) والذي خرج بـ”وثيقة كامبل” التي رأت أن الدول الإسلامية والعربية بشكل خاص يجب حرمانهم من الدعم واكتساب العلوم والمعارف والتقنيات، كذلك محاربة أي مشروع وحدوي فيها؛ ولتحقيق ذلك دعا المؤتمر لإقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين، لتكون بمثابة حاجز بشري قوي ومعادي يفصل الجزء الأفريقي عن الأسيوي، ويحول دون تحقيق وحدة هذه الشعوب، وهذا الفصل بين آسيا وأفريقيا يبقي العرب في حالة ضعف.
وهدفت الوثيقة إلى محاربة نهوض العرب ومنعهم من لتقدم وامتلاك العلم والمعرفة من خلال سياسات الدول المتقدمة لحجب وسائل العلم وامتلاك إمكانية تطويره والمساهمة في إنتاج المعرفة.
ومن بعد مؤتمر كامبل، يأتي وعد بلفور في عام 1917 بإنشاء وطن قومي لليهود، لتستمر الجهود البريطانية حتى إعلان دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية في عام 1947.
وحتى بعد رحيل الاحتلال عن المنطقة العربية لم تتوقف مخططات التقسيم، ففي العام 1982 ظهرت خطة “أودد يينون” وهو أحد رجالات المخابرات والخارجية الإسرائيلية، والعقل المدبر لاستراتيجيات حزب الليكود، وقد تم نشر خطته في عدد فبراير 1982 من مجلة “كيفونيم” تحت عنوان “استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات”، وهذه المجلة هي الإصدار الرسمي لقسم المعلومات بالمنظمة الصهيونية العالمية. وبعد نشر الخطة بأربعة أشهر تم غزو لبنان.
ومن أهم ركائز هذه الخطة: تقسيم الدول العربية والإسلامية على أساس طائفي، وتحقيق حلم النيل للفرات من خلال ميليشيات وعصابات موالية لإسرائيل تحكم المنطقة بعد تقسيمها لدويلات صغيرة، ويعتمد نجاح الخطة على انقسام العرب والمسلمين وجمود عقلياتهم وفشل أي حركات تقدمية في مجتمعاتهم.
وكانت تنظر هذه الخطة إلى مصر على أن نظام حكمها عقيم ومفلس وبيروقراطي، ودولة ذات تكدس سكاني وموارد شحيحة وتخلف علمي ونخب ثرية وأغلبية فقيرة وبطالة وأزمة سكن، واقتصاد يشهر إفلاسه حال توقف المساعدات الخارجية، ويمكن إعادتها لوضع النكسة في ساعات. كما كشفت خطة “يينون” عن تطابق التكوين الجيولوجي لسيناء ومنطقة الخليج واحتوائها على النفطوحتمية عودتها لإسرائيل دون تدخل مباشر لإسرائيل، فسيقود النظام الحاكم للبلاد للانهيار من تلقاء فساده وسوء إدارته.
ومن أشهر مخططات التقسيم خرائط برنارد لويس عام 1992، وهي قريبة بعض الشئ من خريطة “يينون” فقد اعتمدت عل تقسيم المنطقة عرقيا وطائفيا ولغويا، وظهرت في أجواء تفكك الاتحاد السوفيتي، وانهيار الترابط العربي بعد غزو العراق للكويت، ووجود قوات قوات أمريكية في دول الخليج بحجة حمايتها.. ففي هذا المناخ ظهرت خريطة “لويس” والتي اعتبرت غزو العراق للكويت النهاية الفعلية لسيطرة العرب على سلاح النفط، فلن تتمتع أي دولة نفطية بالاستقلال والقوة، وكلمة السر (التحكم من الخارج) دون الحاجة لاحتلال عسكري إلا لحماية موارد النفط إذا تعرضت للخطر.
واتفقت خريطة “لويس” مع خريطة “يينون” في محو لبنان وتقسيم العراق إلى 3 دويلات (سنية وشيعية وكردية)، وضم سيناء لإسرائيل، لكنه اختلف مع “يينون” في استبعاد وقتها تقسيم مصر، على أن تضم سيناء لإسرائيل، كما استبعد تقسيم سوريا، وركز بشكل كبير على تقسيم منطقة شرق الخليج العربي (إيران وأفغانستان وباكستان)، كما اشتملت خطة “لويس” على إشعال 9 حروب في المنطقة، وعاشرتهم حرب البلقان في أوروبا التي توقع امتدادها إلى شرق البحر المتوسط، على أن تسرع تلك الحروب من وتيرة عجلة تقسيم المنطقة، وبعد التقسيم تنشب حرب أخرى كبرى بين العرب وإيران بمجرد هيمنة إيران على الدويلة العراقية الشيعية.
وتعمدت خريطة “لويس” الحفاظ على قوة واستقرار كل من إسرائيل وتركيا والاعتماد عليهما، كما أشار إلى تنظيمات إسلامية مسلحة مصنوعة في بريطانيا (يغذيها استبداد الحكام في دولهم) على أن تساهم انتصارات تلك التنظيمات في إضعاف السلطة المركزية، ومن ثم سقوط الدول القائمة على جبروت النظام (وهو ما حدث بالفعل في موجة ثورات الربيع العربي عام 2011)، فبعد 10 سنوات وجدت رؤى برنارد لويس الاستعمارية النفطية ضالتها في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دابليو بوش التي استعانت به كمستشار لها قبل الغزو الأمريكي للعراق. أما في عام 2006 فقد ظهرت خريطة جديدة للجنرال الأمريكي رالف بيترز، وهو كولونيل أمريكي متقاعد ومساند لإسرائيل بقوة، ونشر خريطته في مقال بعنوان “حدود الدم” في المجلة العسكرية الأمريكية “آرمدفورسز جورنال”، حيث اعتمدت خريطته على إسالة الدماء من خلال مخطط لتقسيم منطقة الشرق الأوسط على أسس عرقية ودينية وطائفية، وقد برر لهذا التقسيم أن هناك أقليات مضطهدة ومظلومة وأن منطقة الشرق الأوسط تستحق وضعا أفضل مما هي عليه، وأن تقسيم (سيكس/ بيكو) قد ظلم شعوب هذه المنطقة والحدود الحالية للمنطقة قد وضعها “الأوروبيون الانتهازيون” حسب تعبيره.
وخلال الـ14 عاما التالية لمخطط “لويس” تنامى اليمين الإسلامي الجهادي (تنظيم القاعدة) في مقابل اليمين المسيحي واليهودي (المحافظين الجدد بالولايات المتحدة والصهاينة التقليديين) “شارون وتنتياهو”، وكان أهم ما شهدته تلك الفترة (انتفاضة الأقصى عام 2000 في فلسطين، وأحداث سبتمبر 2001 في نيويورك، وغزو أمريكا لأفغانستان في 2001، وغزو أمريكا للعراق في 2003).
وقد رأى “رالف بيترز” ضرورة تفتيت المملكة العربية السعودية وإيران وباكستان باعتبارهم منبع الشر، وبدأ مقاله الشهير “حدود الدم” عن الحدود التي توفر الأمن لإسرائيل.
وتضمنت خريطة “بيترز” إقامة دولة مؤلفة من سنة العراق مع سنة سوريا وهي الحدود التي أقامها وسيطر عليها تنظيم داعش في كل من سوريا والعراق في الفترة (2014 – 2017)، ودولة علوية من ساحل سوريا إلى ساحل لبنان، ودولة شيعية في جنوب العراق، على أن يتم تقسيم السعودية إلى عدة دويلات على أن ينضم جزء من الشمال للأردن، ودولة مقدسات دينية في الحجاز، وأن تنضم السواحل الشرقية إلى شيعة العراق، وجزء من الجنوب الغربي ينضم إلى اليمن، ولا يتبقى للسعوديين إلا “نجد” وعاصمتها الرياض في قلبها.
أيضا، رأى “بيترز” ضم إمارات الخليج إلى شيعة العراق، وتصبح “دبي” بمفردها دولة مستقلة دون توجهات سياسية وعاصمة للمال والتجارة واللهو على غرار إمارة موناكو وعاصمتها “مونت كارلو” في أوروبا.
إن مخططات وخرائط التقسيم لمنطقتنا العربية لن تنتهي، وستظهر العديد من الخرائط التي يعملون عليها، لإحكام السيطرة على ثروات العرب وتوفير الأمن الكامل لدولة الاحتلال الإسرائيلي وتعزيز نفوذها في المنطقة. ومع قوة كل موقف عربي ونجاحه في وأد محاولاتهم، يلجأون إلى مخطط جديد تعمل عليه أجهزتهم ومنظريهم في الفكر الاستراتيجي؛ ولعل موقف مصر ودعمه عربيا وإقليميا ودوليا مثل صفعة كبرى لهم، وجعلهم يولون أدبارهم لإشعار آخر.